فصل: مطلب فِي أَشْيَاءَ تُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب حُكْمِ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَتَحْرِيمُ زَخْرَفَتِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ‏,‏ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ أَيْ إنْ حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بِعَرْضِهِ عَلَى النَّارِ ‏.‏

وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يُكْرَهُ ذَلِكَ ‏,‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَهَلْ تَحْرُمُ تَحْلِيَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ وَزَكَاتُهُ بِشَرْطِهَا أَوْ يُكْرَهُ‏؟‏ عَلَى قَوْلَيْنِ ‏.‏

وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ فِي الرِّعَايَةِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا مَرَّ ‏.‏

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ وَنَحْوِهِ ‏;‏ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُ ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهُ لِذَلِكَ ‏.‏

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ وَيُصَانُ عَنْهُ ‏.‏

وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ‏.‏

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ ‏.‏

ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَوَّلُ مَنْ ذَهَّبَ الْكَعْبَةَ وَزَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسَرِيَّ إلَى مَكَّةَ ‏.‏

وَتُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ بِنَقْشٍ وَصَبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ غَالِبًا ‏.‏

وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ حَرُمَ وَوَجَبَ الضَّمَانُ ‏.‏

وَفِي الْغُنْيَةِ لَا بَأْسَ بِتَجْصِيصِهِ انْتَهَى ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ أَيْ‏:‏ يُبَاحُ تَجْصِيصُ حِيطَانِهِ وَهُوَ تَبْيِيضُهَا بِهِ ‏,‏ وَصَحَّحَهُ الْحَارِثِيُّ وَلَمْ يَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ هُوَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا

 مطلب فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ

‏(‏النَّوْعُ الثَّالِثُ‏)‏ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ ‏.‏

فَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ بِلَا حَاجَةٍ ‏,‏ فَإِنْ تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ ‏,‏ وَلَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ حَتَّى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي الْمُعْتَمَدِ ‏.‏

وَيُمْنَعُ نَجِسُ الْبَدَنِ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ ‏.‏

وَيُمْنَعُ مِنْ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَإِيذَاءِ الْمُصَلِّينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ‏.‏

وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ‏:‏ أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً ‏,‏ لَعَمْرِي إنَّهَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ ‏.‏

وَإِيقَادِ شَهَوَاتِهِمْ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ وَهَذَا فِي زَمَانِهِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ ‏.‏

قَالَ وَمَا يَجْرِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاسِمِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا أَضْعَافُ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ فِي زَمَانِهِ ‏,‏ وَهُوَ رضي الله عنه قَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ ‏,‏ فَمَا بَالُك بِعَصْرِنَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةَ عَشَرَ ‏,‏ وَقَدْ انْطَمَسَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ ‏,‏ وَطُفِّئَتْ إلَّا مِنْ بَقَايَا حَفَظَةِ الدِّينِ ‏,‏ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً ‏,‏ وَالْبِدْعَةُ شِرْعَةً ‏,‏ وَالْعِبَادَةُ عَادَةً وَالْعَادَةُ عِبَادَةً ‏.‏

فَعَالِمُهُمْ عَاكِفٌ عَلَى شَهَوَاتِهِ ‏,‏ وَحَاكِمُهُمْ مُتَمَادٍ فِي غَفَلَاتِهِ ‏,‏ وَأَمِيرُهُمْ لَا حُلْمَ لَدَيْهِ ‏,‏ وَلَا دِينَ ‏,‏ وَغَنِيُّهُمْ لَا رَأْفَةَ عِنْدَهُ ‏,‏ وَلَا رَحْمَةَ لِلْمَسَاكِينِ ‏,‏ وَفَقِيرُهُمْ مُتَكَبِّرٌ ‏,‏ وَغَنِيُّهُمْ مُتَجَبِّرٌ ‏.‏

 مطلب مُتَصَوِّفَةِ زَمَانِنَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ

فَلَوْ رَأَيْت جُمُوعَ صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا ‏,‏ وَقَدْ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ ‏,‏ وَأَحْضَرُوا آلَاتِ الْمَعَازِفِ بِالدُّفُوفِ الْمُجَلْجِلَةِ ‏,‏ وَالطُّبُولِ وَالنَّايَاتِ وَالشَّبَابِ ‏,‏ وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ يَرْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ ‏,‏ لَقَضَيْت بِأَنَّهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ السَّامِرِيِّ وَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ عِجْلِهِمْ يَعْكُفُونَ ‏.‏

أَوْ حَضَرْت مَجْمَعًا وَقَدْ حَضَرَهُ الْعُلَمَاءُ بِعَمَائِمِهِمْ الْكِبَارِ وَالْفِرَاءِ الْمُثَمَّنَةِ ‏,‏ وَالْهَيْئَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ ‏,‏ وَقَدَّمُوا قَصَّابَ الدُّخَانِ ‏,‏ الَّتِي هِيَ لجامات الشَّيْطَانِ ‏,‏ وَقَدْ ابْتَدَرَ ذُو نَغْمَةٍ يَنْشُدُ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُهَيِّجَةِ ‏,‏ فَوَصَفَ الْخُدُودَ وَالنُّهُودَ وَالْقُدُودَ ‏,‏ وَقَدْ أَرْخَى الْقَوْمُ رُؤْسَهُمْ وَنَكَّسُوهَا ‏,‏ وَاسْتَمَعُوا للنغمة وَاسْتَأْنَسُوهَا ‏,‏ لَقُلْت وَهُمْ لِذَلِكَ مُطْرِقُونَ‏:‏ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏.‏

فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏.‏

وَكُلُّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِطَائِفَةٍ زَعَمَتْ الْعِرْفَانَ يَهُونُ ‏.‏

فَإِنَّهُمْ مَعَ انْكِبَابِهِمْ عَلَى الشَّهَوَاتِ ‏,‏ وَارْتِكَابِهِمْ الْمَعَاصِيَ وَانْتِحَالِهِمْ الشُّبُهَاتِ ‏,‏ يَزْعُمُونَ الِاتِّحَادَ وَالْحُلُولَ ‏,‏ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ ‏,‏ وَأَنَّهُمْ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَالْفُحُولُ ‏.‏

وَلَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه ‏"‏ لَا يَأْتِي عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ‏"‏ سَمِعْته مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ أَشْيَاءَ يَحْرُمُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ

وَتُمْنَعُ مِنْهُ حَائِضٌ وَنُفَسَاءُ مُطْلَقًا ‏.‏

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ‏:‏ يَجِبُ صَوْنُهُ عَنْ جُلُوسِهِمَا فِيهِ ‏.‏

وَأَمَّا الْمُرُورُ فِيهِ فَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَّا لِحَاجَةٍ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَوْنُهُ طَرِيقًا قَرِيبًا حَاجَةٌ ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ بِلَا وُضُوءٍ ‏.‏

وَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ فِيهِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ‏:‏ يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فَوْقَهُ وَالتَّمَسُّحُ بِحَائِطِهِ ‏,‏ وَالْبَوْلُ عَلَيْهِ ‏.‏

وَجَوَّزَ فِي الرِّعَايَةِ الْوَطْءَ فِيهِ وَعَلَى سَطْحِهِ ‏.‏

وَالْمَذْهَبُ حُرْمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هَوَاءُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ ‏,‏ مِثْلُ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا فَوْقَ بَيْتٍ ثُمَّ يَجْعَلَ السُّفْلَ مِنْهُمَا مَسْجِدًا دُونَ الْأَعْلَى ‏,‏ فَهَذَا لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ ‏.‏

وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّطْحُ تَابِعًا لِلْمَسْجِدِ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَيُمْنَعُ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ ‏,‏ وَلَوْ فِي إنَاءٍ ‏,‏ وَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ‏.‏

وَإِنْ بَالَ خَارِجَهُ وَجَسَدُهُ فِيهِ دُونَ ذَكَرِهِ كُرِهَ ‏.‏

وَمَفْهُومُهُ‏:‏ إذَا كَانَ ذَكَرُهُ فِي الْمَسْجِدِ حَرُمَ ‏;‏ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ ‏.‏

وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رضي الله عنه كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ مُجَاوِرٍ فِي مَسْجِدٍ ‏,‏ وَلَيْسَ بِهِ ضَرَرٌ ‏,‏ وَالسِّقَايَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ ‏,‏ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ وَالْحَالَةُ هَذِهِ‏؟‏ أَجَابَ رضي الله عنه‏:‏ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَسُئِلَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِرْكَةٌ يُغْلَقُ عَلَيْهَا بَابُ الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَمْشِي حَوْلَهَا دُونَ أَنْ يُصَلِّيَ حَوْلَهَا ‏,‏ هَلْ يَحْرُمُ الْبَوْلُ عِنْدَهَا‏؟‏ أَجَابَ رضي الله عنه‏:‏ هَذَا يُشْبِهُ الْبَوْلَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْقَارُورَةِ ‏.‏

وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ نَهَى عَنْهُ ‏;‏ لِأَنَّ هَوَاءَ الْمَسْجِدِ كَقَرَارِهِ فِي الْحُرْمَةِ ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَخِّصُ لِلْحَاجَةِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا إذَا فُعِلَ لِلْحَاجَةِ فَقَرِيبٌ ‏,‏ وَأَمَّا اتِّخَاذُ ذَلِكَ مَبَالًا وَمُسْتَنْجًى فَلَا ‏.‏

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا فَصَّلَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ مُرَادُهُمْ أَنَّ نَحْوَ الْبِرْكَةِ إنْ جُعِلَ حَوْلَهَا بَالُوعَةٌ وَمِثْلُ الْمَطْهَرَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَإِنْ كَانَ وَضْعُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ مُسَاوِيًا فِي الْوَضْعِ أُبِيحَ فِي الْمَطْهَرَةِ ‏,‏ وَمَا أُعِدَّ لِذَلِكَ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ وَضْعِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مَسْجِدٌ ‏,‏ وَلَهُ حُكْمُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَلَيْسَ لِلنَّاسِ اسْتِعْمَالُ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ فِي أَغْرَاضِهِمْ كَالْأَعْرَاسِ والأعزية وَنَحْوِ ذَلِكَ

 مطلب حُكْمِ دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ

وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ ‏,‏ وَلَوْ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ ‏.‏

وَيَجُوزُ دُخُولُهَا لِلذِّمِّيِّ إذَا اُسْتُؤْجِرَ لِعِمَارَتِهَا ‏.‏

هَذَا الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ ‏.‏

وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى فِي جَوَازِ دُخُولِ الْكَافِرِ مَسَاجِدَ الْحِلِّ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ لِمَصْلَحَةٍ رِوَايَتَانِ ‏.‏

قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى‏:‏ وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا أَظْهَرُ ‏,‏ فَإِنْ جَازَ فَفِي جَوَازِ جُلُوسِهِ فِيهِ جُنُبًا وَجْهَانِ ‏.‏

وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةَ الْجِوَارِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ إذْنٍ ‏.‏

وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ هَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ‏؟‏ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ‏.‏

وَذُكِرَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ‏.‏

وَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ ‏.‏

فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِكَافِرٍ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ‏؟‏ فِيهِ رِوَايَتَانِ ‏.‏

ثُمَّ هَلْ الْخِلَافُ فِي كُلِّ كَافِرٍ أَمْ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ‏؟‏ فِيهِ طَرِيقَانِ ‏.‏

وَهَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَعَ إذْنِ الْمُسْلِمِ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا يُعْتَبَرَانِ ‏,‏ أَوْ يُعْتَبَرُ إذْنُ الْمُسْلِمِ فَقَطْ‏؟‏ فِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ ‏.‏

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ دُخُولِهِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ ‏.‏

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا ‏.‏

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكِتَابِيِّ دُونَ غَيْرِهِ ‏.‏

وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ حَرَمِ مَكَّةَ وَلَا حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ

 مطلب حُكْمِ غَرْسِ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ

‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ جَزَمَ عُلَمَاؤُنَا رضي الله عنهم بِعَدَمِ جَوَازِ غَرْسِ شَيْءٍ فِي الْمَسْجِدِ ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَيُقْلَعُ مَا غُرِسَ فِيهِ ‏,‏ وَلَوْ بَعْدَ إيقَافِهِ ‏.‏

وَكَذَا حَفْرُ بِئْرٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ ‏.‏

وَلِلْإِمَامِ قَلْعُ مَا غُرِسَ فِيهِ بَعْدَ إيقَافِهِ ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ الْفَرْحِ بْنِ الصَّبَّاحِ ‏.‏

وَقَطَعَ فِي التَّلْخِيصِ بِأَنَّهَا تُقْطَعُ كَمَا لَوْ غُرِسَتْ فِي أَرْضِ غَصْبٍ ‏,‏ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي الْمُحَرَّرِ ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْفَرَجِ فِي الْمُبْهِجِ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَرْسُهَا ‏.‏

وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ الْفَرْحِ بْنِ الصَّبَّاحِ‏:‏ هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ ‏,‏ وَاَلَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَهَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ‏.‏

وَسَأَلَهُ مُثَنَّى عَنْ هَذَا ‏.‏

قَالَ مُثَنَّى فَلَمْ يُعْجِبْهُ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ الزَّرْعِ فِيهِ ‏,‏ وَالْغَرْسِ وَأَكْلِ ثَمَرِهِ مَجَّانًا فِي الْأَشْهَرِ ‏.‏

وَفِي الْإِنْصَافِ‏:‏ وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ شَجَرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ‏.‏

هَذَا الْمَذْهَبُ ‏.‏

نَصَّ عَلَيْهِ ‏,‏ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ ‏,‏ وَقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْمُذَهَبِ وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْخُلَاصَةِ وَالْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَالْفَائِقِ وَغَيْرِهِمْ ‏,‏ وَقَدَّمَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْفُرُوعِ وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

وَذَكَرَ فِي الْإِرْشَادِ وَالْمُبْهِجِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى إنْ غُرِسَتْ بَعْدَ وَقْفِهِ قُلِعَتْ إنْ ضَيَّقَتْ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى‏:‏ وَيَحْرُمُ غَرْسُهَا مُطْلَقًا ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إنْ ضَيَّقَتْ حَرُمَ وَإِلَّا كُرِهَ ‏.‏

وَجَزَمَ الشَّيْخُ مَرْعِي فِي غَايَتِهِ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ ‏,‏ وَلَا بُدَّ أَنْ لَا تَكُونَ بِبُقَعِ مُصَلِّينَ

 مطلب حُكْمِ أَكْلِ تَمْرِ شَجَرِ الْمَسْجِدِ

وَفِي الْفُرُوعِ وَالْإِنْصَافِ وَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا‏:‏ فَإِنْ لَمْ تُقْلَعْ فَثَمَرَتُهَا لِمَسَاكِينِ الْمَسْجِدِ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ‏:‏ قَالَ الْحَارِثِيُّ‏:‏ وَهُوَ الْمَذْهَبُ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَالْأَقْرَبُ حِلُّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ أَيْضًا ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ لَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا ‏,‏ وَإِنْ غُرِسَتْ قَبْلَ بِنَائِهِ وَوُقِفَتْ مَعَهُ ‏,‏ فَإِنْ عَيَّنَ مَصْرِفَهَا عُمِلَ بِهِ ‏,‏ وَإِلَّا فَكَمُقَطَّعٍ يَعْنِي تُصْرَفُ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ نَسَبًا غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ وَقْفًا عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ فَيَسْتَحِقُّونَهُ كَالْمِيرَاثِ وَيَقَعُ الْحُجُبُ بَيْنَهُمْ ‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ فَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ ‏.‏

وَقَالَ الْمُوَفَّقُ‏:‏ يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا ‏,‏ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ‏.‏

وَقَدَّمَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى ‏.‏

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ‏:‏ تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ ‏,‏ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَلِجَارِهِ أَكْلُ ثَمَرِهِ ‏.‏

نَصَّ عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفَائِقِ ‏,‏ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهَا كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ ‏.‏

جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ ‏.‏

 مطلب حُكْمِ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حَفْرِ الْبِئْرِ فَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى بِعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ ‏.‏

قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى‏:‏ وَلَوْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ‏;‏ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ ‏.‏

وَفِي الْإِقْنَاعِ يُتَوَجَّهُ جَوَازُ حَفْرِ بِئْرٍ إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ‏,‏ وَلَمْ يَحْصُلُ بِهِ ضِيقٌ ‏,‏ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْغَايَةِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَيَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهِ ‏,‏ وَلَا تَغَطَّى بِالْمُغْتَسَلِ ‏;‏ لِأَنَّهُ لِلْمَوْتَى وَتُطَمُّ ‏.‏

نَقَلَ ذَلِكَ الْمَرُّوذِيُّ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْ حَفْرَهَا فِيهِ يَعْنِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ قَالَ‏:‏ قُلْت بَلَى إنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِيهِ ‏.‏

انْتَهَى كَلَامُهُ فِي الْفُرُوعِ ‏.‏

وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ‏:‏ يَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَإِنْ فُعِلَ طُمَّ ‏,‏ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ ‏.‏

ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الْفُرُوعِ بِالْحَرْفِ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَقَالَ الْحَارِثِيُّ فِي الْغَصْبِ‏:‏ وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهَا ‏;‏ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إذْ الْبُقْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْحَفْرِ فِي السَّابِلَةِ لِاشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ‏,‏ فَالْحَفْرُ فِي إحْدَاهُمَا كَالْحَفْرِ فِي الْأُخْرَى ‏,‏ فَيَجْرِي فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ ثَوَابٍ بِعَدَمِ الضَّمَانِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

فَهَذَا تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ‏.‏

وَالْمُخْتَارُ مِنْ هَذَا الْمَنْقُولِ مَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ مَرْعِي فِي غَايَتِهِ مِنْ جَوَازِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَغَرْسِ الشَّجَرَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ حَيْثُ كَانَتَا فِي غَيْرِ بُقَعِ الْمُصَلِّينَ ‏.‏

وَهَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَيْنُ الْيَقِينِ ‏,‏ فَإِنَّ مَسَاجِدَ بِلَادِنَا لَا تَتِمُّ مَصَالِحُهَا بِهَا لَا سِيَّمَا حَفْرُ الْآبَارِ ‏,‏ فَإِنَّ كَوْنَ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِ وَأَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي سَائِرِ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا فِي زَمَانِنَا ‏,‏ وَمُنْذُ أَزْمَانٍ ‏,‏ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ ‏.‏

وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي تَجْدِيدِ الْآبَارِ ‏,‏ وَأَمَّا مَا كَانَ سَابِقًا فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الشَّجَرَةِ ‏,‏ وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّجْدِيدِ ‏,‏ وَوَضْعُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَضْعُهَا عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ

‏(‏الْخَامِسُ‏)‏ فِي أَشْيَاءَ تُكْرَهُ فِي الْمَسَاجِدِ ‏.‏

يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْنُدَ ظَهْرَهُ إلَى الْقِبْلَةِ ‏,‏ بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي جُلُوسِهِ ‏.‏

وَأَنْ يُشَبِّكَ أَصَابِعَهُ فِيهِ ‏.‏

زَادَ فِي الرِّعَايَةِ‏:‏ عَلَى خِلَافِ صِفَةِ مَا شَبَّكَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

كَذَا فِي الْإِقْنَاعِ ‏.‏

وَأَشَارَ فِي الرِّعَايَةِ إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ‏,‏ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏"‏ وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ ‏,‏ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ ‏,‏ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏"‏ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ‏:‏ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيكِ مُطْلَقًا ‏.‏

وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ ‏.‏

وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ قَبْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثِينَ حَدِيثٌ آخَرُ وَنَصُّهُ‏:‏ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَنَا وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ‏"‏ شَبَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ ‏"‏ قَالَ مُغَلْطَايُ‏:‏ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ ‏.‏

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ‏:‏ هُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ عَنْ الْبُخَارِيِّ ‏.‏

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ‏:‏ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مُعَارَضَةُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ ‏.‏

وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ مَرَاسِيلُ وَمُسْنَدٌ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ ثَابِتَةٍ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ‏:‏ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ تَعَارُضٌ ‏;‏ إذْ الْمُنْهَى عَنْهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ ‏.‏

وَجَمَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَاصِدًا إلَيْهَا إذْ مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إنَّ حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنْهُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ التَّشْبِيكَ يَجْلُبُ النَّوْمَ ‏,‏ وَهُوَ مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ ‏.‏

وَقِيلَ إنَّ صُورَتَهُ تُشْبِهُ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمُنْهَى عَنْهُ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُصَلِّينَ ‏"‏ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي شُعَبِ الْإِيْمَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ ‏"‏ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا ‏"‏ زَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ ‏.‏

وَقَدْ شَبَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ إيرَادِهَا ‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏.‏

وَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ حَيْثُ يَخْرُجُ يَعْنِي لِلصَّلَاةِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ كَرَاهَةً ‏,‏ وَفِي الصَّلَاةِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَنَقَلَ فِي الْفُرُوعِ كَرَاهَةَ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الصَّلَاةِ ‏,‏ وَأَنَّهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ‏.‏

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ ‏"‏ تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ‏"‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ‏.‏

وَقَالَ مُغَلْطَايُ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَكَلُّمِهِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّشْبِيكِ‏:‏ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَارِضَةٌ النَّهْيَ عَنْ التَّشْبِيكِ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ‏:‏ إنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ لَيْسَ مُسَاوِيًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَّةِ ‏.‏

وَقَالَ الْأَكْثَرُ‏:‏ حَدِيثُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالصَّلَاةِ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ‏.‏

رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إنَّهُمْ لَيُنْكِرُونَ تَشْبِيكَ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ وَمَا بِهِ مِنْ بَأْسٍ ‏,‏ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ حُسْنِ التَّسْلِيكِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيكِ‏:‏ رَخَّصَ فِي التَّشْبِيكِ ابْنُ عُمَرَ وَسَالِمٌ ابْنُهُ فَكَانَا يُشَبِّكَانِ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ ‏.‏

قَالَ مُغَلْطَايُ‏:‏ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ التَّشْبِيكِ وَبَيْنَ تَشْبِيكِهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصَابِعِهِ مُعَارَضَةٌ ‏,‏ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ عَنْ فِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْمُضِيِّ إلَيْهَا ‏,‏ وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلتَّشْبِيكِ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ ‏,‏ وَلَا فِي الْمُضِيِّ إلَيْهَا فَلَا مُعَارَضَةَ إذَنْ وَبَقِيَ كُلُّ حَدِيثٍ عَلَى حِيَالِهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ‏:‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ‏:‏ يَجُوزُ التَّشْبِيكُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَفِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ‏,‏ وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ و سَالِمٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ ‏.‏

وَحَكَى كَرَاهَتَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَكَعْبٍ ‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ إنَّمَا هِيَ لِمَنْ هُوَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ‏.‏

 مطلب تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ

أَقْسَامٌ قَالَ‏:‏ وَقَسَّمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّشْبِيكَ إلَى أَقْسَامٍ‏:‏ أَحَدُهَا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ ‏,‏ وَلَا شَكَّ فِي كَرَاهَتِهِ ‏.‏

وَثَانِيهَا‏:‏ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةَ ‏,‏ أَوْ وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْمَسْجِدِ يُرِيدُهَا بَعْدَمَا تَطَهَّرَ ‏,‏ وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ ‏.‏

قُلْت‏:‏ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ مَوْلًى لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما قَالَ ‏"‏ بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ ‏,‏ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَسَطَ الْمَسْجِدِ مُحْتَبِيًا مُشَبِّكًا أَصَابِعَهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَلَمْ يَفْطِنْ الرَّجُلُ لِإِشَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَالْتَفَتَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ ‏,‏ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ ‏"‏ ‏.‏

وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ‏"‏ إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ‏.‏

وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏,‏ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا ‏.‏

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ ‏.‏

ثَالِثُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ ‏,‏ وَلَيْسَ يُرِيدُ صَلَاةً أُخْرَى ‏,‏ وَلَا يَنْتَظِرُهَا فَلَا يُكْرَهُ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ ‏.‏

رَابِعُهَا‏:‏ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَكَأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ إخْرَاجُ مَا إذَا شَبَّكَهَا عَقِبَ الصَّلَاةِ - وَلَيْسَ مُنْتَظِرًا لِصَلَاةٍ أُخْرَى - مِنْ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ عَلَى خِلَافِ مَا شَبَّكَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وَهُوَ مُرَادٌ 0حَسَنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب فِي أَشْيَاءَ تُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ

قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ وَيُكْرَهُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ وَتَطْيِينُهُ بِنَجِسٍ ‏,‏ وَكَذَا قَالَ ‏.‏

وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ إمَامٍ مُدَاوَمَةُ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا يُصَلِّي إلَّا فِيهِ ‏(‏الْمَسْجِدُ‏)‏ ‏,‏ فَإِنْ دَاوَمَ فَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ ‏,‏ فَإِذَا قَامَ مِنْهُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَفِي إطْلَاقِ هَذَا نَظَرٌ يَظْهَرُ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ ‏.‏

وَأَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ‏:‏ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ السِّوَاكَ فِي الْمَسْجِدِ ‏,‏ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ فِيهِ ‏,‏ وَجَمَعَهُ ‏(‏الْمَسْجِدُ‏)‏ فَلَمْ يَتْرُكْهُ ‏,‏ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ‏,‏ سَوَاءٌ قُلْنَا بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ أَوْ نَجَاسَتِهِ ‏.‏

وَأَمَّا إذَا تَرَكَ شَعْرَهُ فِيهِ فَهَذَا يُكْرَهُ ‏,‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا ‏,‏ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ عَنْ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ ‏.‏

وَقَالَ فِي الْآدَابِ‏:‏ يُبَاحُ قَتْلُ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ فِيهِ ‏(‏الْمَسْجِدُ‏)‏ ‏,‏ نَصَّ عَلَيْهِ ‏,‏ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى طَهَارَتِهَا ‏,‏ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُ ‏;‏ لِأَنَّ إلْقَاءَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَقَاءَهُ لَا يَجُوزُ ‏.‏

انْتَهَى وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب يُكْرَهُ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى السَّائِلِ فِيهِ

‏(‏السَّادِسُ‏)‏ قَالَ عُلَمَاؤُنَا‏:‏ يُكْرَهُ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى السَّائِلِ فِيهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ ‏.‏

وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه أَنَّ مَنْ سَأَلَ قَبْلَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ ‏,‏ يَعْنِي لَمْ تُكْرَهُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ ‏.‏

وَكَذَلِكَ إنْ تُصُدِّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ أَوْ سَأَلَ الْخَاطِبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إنْسَانٍ جَازَ ‏.‏

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ‏:‏ صَلَّيْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ يَقْرَبُ مِنِّي ‏,‏ فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً ‏,‏ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لِلسَّائِلِ‏:‏ أَعْطِنِي الْقِطْعَةَ وَأُعْطِيك دِرْهَمًا ‏,‏ فَأَبَى ‏,‏ فَمَا زَالَ يَزِيدُهُ إلَى خَمْسِينَ ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ لَا إنِّي أَرْجُو مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ ‏.‏

ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ ‏.‏

وَنُقِلَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيِّ الْحَنَفِيِّ‏:‏ لَا يَحِلُّ أَنْ يُعْطَى سؤال الْمَسَاجِدِ ‏.‏

وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ‏:‏ لَوْ كُنْت قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ تَصَدَّقَ يَعْنِي فِي الْمَسَاجِدِ ‏.‏

وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ أَنَّهُ إنْ سَأَلَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ ‏,‏ وَلَا ضَرَرَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ‏,‏ وَإِلَّا كُرِهَ ‏.‏

وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رضي الله عنه عَنْ السُّؤَالِ فِي الْجَامِعِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ أَنَّ تَرْكَهُ أَحَبُّ مِنْ فِعْلِهِ‏؟‏ أَجَابَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏.‏

أَصْلُ السُّؤَالِ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ‏,‏ فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ ‏,‏ وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا كَتَخْطِيَةِ رِقَابِ النَّاسِ ‏,‏ وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ ‏,‏ وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَّاسَ ‏,‏ مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ ‏,‏ أَوْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ‏,‏ جَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَسُئِلَ أَيْضًا‏:‏ مَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ النَّاسِ فِي الْجَوَامِعِ وَيُشَوِّشُونَ عَلَى النَّاسِ ‏,‏ فَهَلْ يَجُوزُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ‏,‏ وَهَلْ يَجُوزُ تَقْسِيمُ النَّاسِ بِالسِّتِّ نَفِيسَةَ وَبِالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ‏؟‏ أَجَابَ رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ‏:‏ أَمَّا إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ مِثْلُ رِوَايَتِهِمْ لِلْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ أَوْ سُؤَالِهِمْ ‏,‏ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ ‏.‏

أَوْ تخبيطهم لِلنَّاسِ فَإِنَّهُمْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ ‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا سَأَلُوا بِغَيْرِ اللَّهِ ‏,‏ سَوَاءٌ سَأَلُوا بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ أَوْ نَفِيسَةَ ‏,‏ فَالصَّدَقَةُ إنَّمَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ‏.‏

وَأَمَّا إذَا خَلَا سُؤَالُهُمْ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ‏,‏ كَمَا جَاءَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

 مطلب فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ

‏(‏السَّابِعُ‏)‏ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ ‏.‏

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ ‏,‏ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ‏,‏ وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ ‏,‏ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏:‏ مَنْ رَاحَ إلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فَخُطْوَةٌ تَمْحُو سَيِّئَةً وَخُطْوَةٌ تُكْتَبُ حَسَنَةً ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ‏"‏ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ‏.‏

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ خَلَتْ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ ‏,‏ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ ‏,‏ فَقَالَ‏:‏ يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ‏,‏ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ‏,‏ فَقَالُوا‏:‏ مَا يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا ‏"‏ وَرَوَاهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ بِمَعْنَاهُ وَفِي آخِرِهِ ‏"‏ إنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَدَنِيُّ الْإِسْنَادِ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إلَيْهَا مَمْشًى ‏,‏ فَأَبْعَدُهُمْ ‏,‏ وَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ ‏,‏ وَأَعْمَالُ الْأَقْدَامِ إلَى الْمَسَاجِدِ ‏,‏ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ يَغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلًا ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَيُضِيءُ لِلَّذِينَ يَتَخَلَّلُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِنُورٍ سَاطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ مَشَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِنُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ ‏.‏

والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا ‏"‏ بَشِّرْ الْمُدْلِجِينَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏,‏ يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ ‏"‏ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم أجمعين ‏.‏

وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ ‏,‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ ‏,‏ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ‏:‏ الْإِمَامُ الْعَادِلُ ‏,‏ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏,‏ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ ‏,‏ وَرَجُلَانِ تَحَابًّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ‏,‏ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏,‏ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ‏,‏ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ‏"‏ ‏.‏

فَإِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ الْمَسْجِدَ وَقَالَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ أَوَّلًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ ‏.‏

وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ‏.‏

وَمِنْ الْمُسْتَحَبِّ فِيهِ قِرَاءَةُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ‏(‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ‏)‏ الْآيَةَ ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى ‏{‏وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏,‏ وَقَالَ ‏{‏وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ وَمِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ مَا دَامَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ ‏.‏

قَالَ أَصْحَابُنَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ صَائِمًا ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ وَمَعْنَاهُ فِي الْغُنْيَةِ ‏.‏

قُلْت‏:‏ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ ‏,‏ إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارُ اللُّبْثِ وَهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوهُ ‏,‏ فَيَنْوِي الْمَارُّ كَمَا فِي الْأَذْكَارِ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ ‏.‏

وَلَمْ يَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِيمَنْ أَحْدَثَ مَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ

الثَّامِنُ‏:‏ رُفِعَ لِشَيْخِ الْإِسْلَام ابْنِ تَيْمِيَةَ سُؤَالٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ مَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ وَيُخَصَّصُ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ ‏,‏ أَوْ جَعَلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ ‏,‏ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ‏,‏ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُ‏؟‏ ‏.‏

أَجَابَ رضي الله عنه‏:‏ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَكَانٍ مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ غَيْرَهُ فِي أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ ‏,‏ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُ مَقْصُورَةً فِي الْمَسْجِدِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ دُخُولِهِ ‏,‏ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا نِزَاعٍ ‏,‏ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ تَوَطُّنِ الْمَكَانِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطَّنُ الْبَعِيرُ ‏.‏

قَالَ وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ مَكَانًا مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي إلَّا فِيهِ ‏,‏ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ الِاخْتِصَاصِ الْمُنْهَى عَنْهُ ‏;‏ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ ‏,‏ مِثْلُ كَوْنِ الرَّجُلِ إذَا رَأَى غَيْرَهُ سَبَقَهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا أَبْغَضَهُ أَوْ سَبَّهُ أَوْ عَادَاهُ ‏.‏

وَالسُّنَّةُ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى بُقْعَةٍ مِنْهُ لِعَمَلٍ جَائِزٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَقُومَ ‏.‏

وَالسُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُسَدَّ الصَّفُّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ‏,‏ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ‏,‏ قَالَ يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ ‏,‏ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ ‏"‏ فَمَنْ سَبَقَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ ‏.‏

وَلَوْ سَبَقَ إلَى سَارِيَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُصَلِّي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى السَّارِيَةِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ ‏,‏ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ غَيْرِهِمْ ‏,‏ وَهَذَا عِنْدَ الِازْدِحَامِ ‏.‏

وَلَوْ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَحَقُّ بِمُعْتَكَفِهِ مَا دَامَ مُعْتَكِفًا ‏,‏ فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْجِدِ ‏.‏

وَلَوْ احْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي اعْتِكَافِهِ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ مِثْلَ الْحُجْرَةِ الَّذِي احْتَجَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَانَ يَعْتَكِفُ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا ‏,‏ بَلْ كَانَ السَّلَفُ يَنْصِبُونَ الْخِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ مُدَّةَ الِاعْتِكَافِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ‏,‏ فَهَذَا مَشْرُوعٌ ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ مُدَّةَ إقَامَةٍ مَشْرُوعَةٍ ‏,‏ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ ثَقِيفٍ أَنْ يَنْزِلُوا بِالْمَسْجِدِ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ وَأَقْرَبَ إلَى دُخُولِ الْإِيمَانِ فِيهَا ‏,‏ وَكَمَا مَرِضَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِعِيَادَتِهِ وَكَالْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِيهِ ‏,‏ أَيْ وَالْحِفْشُ - كَمَا فِي الْمَطَالِعِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ - الدَّرَجُ وَجَمْعُهُ حفاش ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ ‏"‏ هَلَّا جَلَسَ فِي حِفْشِ أُمِّهِ ‏"‏ أَيْ بَيْتِهَا ‏.‏

شَبَّهَ بَيْتَ أُمِّهِ فِي صِغَرِهِ بِهِ ‏.‏

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه‏:‏ هُوَ الْبَيْتُ الْقَرِيبُ السَّمْكِ ‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه‏:‏ هُوَ الصَّغِيرُ الْخَرِبُ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْحِفْشُ شَبَهُ الْقُبَّةِ ‏,‏ تَجْمَعُ فِيهِ الْمَرْأَةُ غَزْلَهَا وَسَقَطَهَا ‏,‏ كَالدَّرَجِ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ يُشَبَّهُ بِهِ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْحَقِيرُ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ إلَى سُتْرَةٍ كَخَيْمَةِ سَعْدٍ وَحِفْشِ الْمَرْأَةِ كَانَ جَائِزًا ‏.‏

فَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ مَسْكَنًا دَائِمًا وَيَتَّخِذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَيَخْتَصَّ بِالْحُجْرَةِ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الدُّورِ بِدُورِهِمْ دَائِمًا فَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ إخْرَاجِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ عَنْ حُكْمِ الْمَسْجِدِ ‏.‏

وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْجُمُعَةِ كَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ ‏.‏

وَتَنَازَعَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي صِحَّةِ هَؤُلَاءِ مُطْلَقًا فِي الْأَمَاكِنِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَوْلَيْنِ ‏,‏ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ آثِمٌ عَاصٍ يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَثَرُ نَصِيبٍ مِنْ قوله تعالى ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِي‏}‏ فَإِنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مِنْ الْمَسَاجِدِ ‏,‏ فَإِذَا مُنِعَ مَنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ أَنْ يَذْكَرَ فِيهَا اسْمَ اللَّهِ بِصَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَعَلُّمٍ أَوْ تَعْلِيمٍ كَانَ ذَلِكَ نَوْعًا مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ ‏.‏

وَكَذَلِكَ تَخْرِيبُ الْمَسَاجِدِ ضِدُّ عِمَارَتِهَا ‏,‏ وَلَيْسَتْ عِمَارَتُهَا الْمَحْمُودَةُ بِمُجَرَّدِ بُنْيَانِ الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ ‏,‏ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ ‏.‏

وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ

أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُون إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ الْآيَةَ ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ‏;‏ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ‏"‏ الْآيَةَ ‏.‏

قُلْت‏:‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه وَقَالَ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ‏,‏ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ‏.‏

وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ‏.‏

وَفِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَنَّ عُمَّارَ بُيُوتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏"‏ ‏.‏

وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَنْ أَلِفَ الْمَسْجِدَ أَلِفَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ ‏,‏ إنْ غَابُوا يَفْتَقِدُوهُمْ ‏,‏ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ ‏,‏ وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب جَلِيسِ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ‏:‏ أَخٌ مُسْتَفَادٌ ‏,‏ أَوْ كَلِمَةٌ مُحْكَمَةٌ ‏,‏ أَوْ رَحْمَةٌ مُنْتَظَرَةٌ ‏"‏ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه دُونَ قَوْلِهِ جَلِيسُ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِهِ ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِهِمَا ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏‏:‏ إنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ ‏,‏ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ ‏,‏ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ ‏,‏ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ ‏"‏ إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ‏.‏

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ‏:‏ فَبَيَّنَ أَنَّ إقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِيهَا عِمَارَةٌ لَهَا ‏,‏ وَهَذَا النَّهْيُ كُلُّهُ لِمَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُتَحَجِّرَةِ عَلَى مَا يُشْرَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ‏,‏ فَأَمَّا إذَا فَعَلَ فِيهَا الْمَحْظُورَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَمُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ وَتَنَاوُلِ الْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَاصِيرُ مَظِنَّةً لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ شُهِرَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ مُوجِبًا لِحَسْمِ الْمَادَّةِ وَالْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ ‏.‏

وَلَيْسَ هَذَا مَِنْ بَابِ الْحُدُودِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ ‏,‏ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الصِّيَانَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالذَّرَائِعِ كَاتِّقَاءِ مَوَاقِفِ التُّهَمِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا ‏,‏ وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ ‏"‏ إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ ‏,‏ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ‏,‏ فَقَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ‏,‏ وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا ‏"‏ ‏.‏

وَكَمَا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا تُجَالِسُهُ الْأَحْدَاثُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ ‏.‏

وَكَمَا نَفَى ‏(‏نَصْرُ بْنُ الْحَجَّاجِ‏)‏ لَمَّا خَافَ افْتِتَانَ النَّاسِ بِهِ ‏.‏

وَكَمَا نَهَى عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرِ بِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ‏,‏ فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مَظِنَّةَ مُفْسِدَةٍ ‏,‏ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنْهُ شَرْعًا ‏,‏ وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ الْقِيَامُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ‏,‏ وَالنَّهْيُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ ‏,‏ وَتُقْلَعُ هَذِهِ الْمَقَاصِيرُ ‏,‏ كَمَا قُلِعَ أَمْثَالُهَا فِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَجَامِعِ الْحَاكِمِ بِمِصْرِ وَغَيْرِهِمَا ‏,‏ فَإِنَّهُ كَانَ هُنَاكَ أَمْثَالُ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ حَتَّى قَلَعَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَنْ حَمِدَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَرَأَوْا فِعْلَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْحَسَنَاتِ وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ بَلْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَاتِ ‏.‏

وَإِذَا قَامَتْ فَإِنَّهَا تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ ‏,‏ فَإِنْ نَفَعَتْ فِي عِمَارَتِهِ وَإِلَّا بِيعَتْ وَانْتَفَعَ الْمَسْجِدُ بِأَثْمَانِهَا ‏.‏

انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ